الفنّ وحقوق الإنسان
بقلم: د. منير توما – كفر ياسيف
لعب الفنّ في العهود الماضية، وما زال حتّى اليوم، يلعب دورًا مهمًّا في حياة الإنسان المتحضّر الراقي، وفي الحضارات الحديثة والمعاصرة، إذ يشكّل رسم اللوحات الفنّيّة ونحت التماثيل وما شابه ذلك، عنصرًا إبداعيًّا خلّاقًا، يهدف الفنان من ورائه إلى التعبير عن ذاته ومشاعره التي تختلج في نفسه تجاه أخيه الإنسان بكل ما تعني العلاقات الإنسانية من فكرٍ وعاطفةٍ وأحاسيس. فالفنّ أساسه الخيال والعاطفة والوجدان وجميعها يسوسها العقل. وبطبيعة الحال، فإنّ العقل يتماهى مع كلّ ما يسعى إليه الإنسان في إسعاد ورفاهية البشريّة وحماية حقوقها واستمرار الحياة الكريمة لأفرادها، بغضّ النظر عن الانتماء العرقيّ أو الدينيّ أو المذهبيّ. فالفنّان يبدع إنسانيًّا منطلقًا من ذاته الخيّرة بطبيعتها، والنيّرة بذهنيّتها. ومن هنا فإن التعاطي الفنّيّ لا يقتصر على مبدأ “الفّنّ للفنّ” فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى الهدف السامي وهو العمل والسعي إلى خدمة البشريّة والمجتمع بأفرادهِ جميعًا، من خلال تسخير الفنون كالرسم والنحت – على سبيل المثال لا الحصر – لإبراز ما يحتاجه الإنسان في حياته على شتّى الصُعُد الشخصيّة والأخلاقيّة، الاجتماعيّة، الفكريّة وما إلى ذلك في سبيل رفعة حياة الإنسان ورقيّها والسموّ بها نحو حياة أفضل، من حيث تحسين ظروف معيشته وصون حقوقهِ والدفاع عنها والابتعاد عن الكبت واعتقال الحرّيّات وفرض القيود دون وجه حقّ.
كل ذلك قد تناوله الفنانون بإبداعاتهم بالإيحاء، بالرسم، أو النحت، أو الفن عمومًا، فجاءت تلك الإبداعات مؤشّرًا على قدرة الإنسان الفنّان المبدع على إثارة عواطف ومشاعر الناس للتنبيه والإرشاد والتحذير، ففي اللوحات الفنّيّة، أحيانًا كثيرة، تجسّد حالات إنسانيّة تخوض غمار علاقة الحاكم بمواطنيه، وسياسات معيّنة غير مرضية لبعض الفئات أو لقطاعات من الشعب الذين يرون أنّ حقوقهم قد هضمت، أو أنّ بعض القوانين تسيء إلى حرّيّاتهم السياسيّة، فيهبّ جرّاء ذلك الفنّانون، على اختلاف ميولهم، لاحتواء مثل هذه الأمور مستخدمين فنّهم وإبداعهم للنقد البنّاء الهادف. يتمّ ذلك من خلال اللجوء إلى فنّ الكاريكاتير أو الرسم المباشر المتضمّن للإيحاء الذي يفرض بالتالي تداعيات وإرهاصات تنعكس على المتلقّي الذي قد يثور على المظالم، أو تتهذّب وتصقل نفسيّته تجاه المستضعفين أو مهيضي الجناح الذين تناول الفنّان ظروفهم بإبداعه، سواء كان ذلك بريشتهِ رسمًا أو بإزميلهِ نحتًا، أو بقلمهِ شعرًا، أو بكاميرته تصويرًا، أو بحركاته التمثيليّة مسرحيًّا وغيرها من الأوضاع التي تحفّز الفنّان للتماهي والتماثل مع الإنسانيّة وحقوقها في هذا الكون المتعدّد المناحي والمتناقضات، التي تلهب خيال الفنّان في الإبداع الهادف كأنّه يرسم لوحة تصوّر عذابات السجين مثلًا، أو معاناة المحرومين، أو أهوال الحروب أو المعاملات القاسية والوحشية، أو المسّ بالكرامة. فهذه الأمور ومثيلاتها يتطرّق اليها يُكثر الفنّانون من التطرّق إليها بغية إظهار حقّ الإنسان في الحياة الكريمة الحرّة الخالية من تعسّف السلطات، أو ظلم الهيئات الحاكمة أيًّا كانت المبرّرات أو المسوّغات، فالفنّان لا بدّ أن يكون دائمًا إنسانيّ النزعة ينادي من خلال فنّهِ بضمان تساوي الناس في الحقوق دون تمييز، باعتبار أنّهم أحرار إطلاقًا من كون الحرّيّة إباحة كلّ عمل لا يضرّ أحدًا.
فالفنّان حين يصوّر الجمال في لوحةٍ ما أو في منحوتةِ معيّنة، فإنّما يعبّر عن حقّ الإنسان في تذوّق الحقيقة الكامنة في مخلوقات في الكون والطبيعة، باعتبار أنّ جماليّات الحياة قد منحها الخالق للإنسان كحقّ له في التمتّع بممارسة حرّيّته في اختيار ما يعجبه من مواصفات، أو مفاتن، أو محاسن متجسّدة في رسم ما أو عملٍ فنّيّ خاصّ، يضيف هذا إلى معنى حقوق الإنسان في عدم إنكار حقّهِ في تنوّع الحرّيّات والأذواق العامّة التي لا تؤدّي إلى الإساءة أو الإضرار بالصالح العامّ أو المنفعة البشريّة.
وعليه، بما أنّ الروائيّين والشعراء ينتمون إلى فئة خاصّة من روّاد ومحترفي الفنّ من خلال الكلمة المكتوبة التي يرسمونها بأقلامهم، فإنّ كلًّا من ديستويفسكي الروائيّ الروسيّ العظيم وجون كيتس الشاعر الإنجليزيّ الشهير، قد صدقا ولم يجانبا الحقيقة حينما قال الأوّل: “إنّ الجمال ينقذ العالم ” بينما قال الثاني: “إنّ الجمال هو الحقيقة “. إنّ هاتين العبارتين تعبير تأطيريّ شامل لما يمهّد له الفنّ ويبني عليه الفنّانون إبداعاتهم، ليُظهروا للناس أنّ في الفنّ جمال وحقيقة تجعل المشاهد أو المستمع أو المتلقي عامةً، يُقبل على ممارسة حقّه وإبداء رأيه بحرّيّة دون قيود بالنسبة لما شاهده أو استمع إليه، بحيث لا يمنع أبدًا من ردود فعلٍ سلميّة على مستوى ما عبّرت وصوّرت الأعمال الفنية من ظلال حياتيّة قاهرة وخانقة إنسانيًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا. فالفنّان قادر بإبداعه على إثارة وتحفيز مشاعر، وعواطف، ووجدان المتلقّي من خلال أعماله الفنّيّة الهادفة التي غالبًا ما تصُبّ في مصلحة الإنسان التوّاق إلى التمتّع بكامل حقوقهِ كمواطن حُرّ يتساوى في ممارسة كافّة الأنشطة الإيجابيّة، وتوفير الفرص للتمتّع بمنافع الثقافة والتقدّم العلميّ وتطبيقاتهِ.
وممّا يؤسَف له أنّ هناك بعض الأنظمة السياسيّة في العالم التي لا تتيح للفنانين ممارسة حرّيّاتهم في الخلق والإبداع، لتعارض ذلك مع الحكم المستبدّ لمثل هذه الأنظمة التي ترى في أفكار بعض الفنّانين تهديدًا لوجودها، وبالتالي فإنّها تمارس سياسات القهر والقمع للفنّانين مع أنّ مثل هذه الظاهرة آخذه في التضاؤل والانحسار بفضل انفتاح العالم إلكترونيًّا، إذ أصبح العالم قرية صغيرة تصل إبداعات الفنّان إلى كلّ مكان فيه.
ولكن الأمر المنشود بالنسبة للأعمال الفنّيّة هو أن تتوفّر إمكانية رؤيتها مباشرة وبشكل كامل دون أيّ مسافة. فالإبداع هو نوع من أنواع البحث، وشكل من أشكال الشكّ، وقول ” لا ” مقاومة الاعوجاج والتصدي له، الإبداع في المرئيّ هو نتاج إزالة الأقنعة عن فكر معارضة كلّ من يمنح نفسه الحقّ في أن يكون معلّمًا للصور والأشكال المرئيّة، وقيّمًا قانونيًّا على ما يتعذر تصويره ووصفه.
لذا فإن الديمقراطيّات هي من توفّر هذه الحقوق للفنّان، بعكس الديكتاتوريّات التي تستهدف حقوقه الإنسانيّة والروحيّة. إنّ إبداع الفنّان يهدف إلى معارضة كلّ عمل أو فعل مؤذٍ أو ضارٍّ، وعليه فكلّ من لا يحترم الحقّ الإنسانيّ للفنّان في الإبداع، إنّما ينتهك سلامة وسيادة الإنسان في تكريس وتوظيف قدراته الفكريّة والفنّيّة في خدمة أخيه الإنسان الذي قد يتعرّض للاضطهاد والإذلال.
فرسم وجه إنسان معذّب مثلًا أو مسحوق اجتماعيًّا أو مقموع سياسيًّا، يثير في المتلقّي تداعيات متنوّعة ومختلفة وفقًا لعقليّة، خلفيّة وثقافة هذا المتلقّي، فينعكس كلّ ذلك إيجابيًّا لمصلحة ومنفعة من كان هذا الوجه رمزًا له، فالنظرة الحرّة تشكّل دائمًا مصدرًا للفنّ الحُرّ رفيع المستوى في الشكل والمضمون والمعنى.
ولهذا فإن الأعمال الفنّيّة المتّصفة بالجمال ما هي إلّا تجسيد قويّ، واضح وعميق يبعث فينا مشاعر الاحترام والتقدير لهذه الحياة التي تستحق العناية بها ورعاية الفنّ فيها بكلّ أشكاله وصورهِ وأنواعهِ. فمهما صعُبت الظروف واحلولك الظلام، سيبقى الفنّ حقًّا من حقوق الإنسان يجب ممارسته بحرّيّة دون قيود من جهة، ودون الإضرار بالآخرين من جهة أخرى، لكي يتماشى ذلك مع تحقيق الأهداف المنشودة والمرجوّة في تحرير الإنسان من عبوديّة أخيه الإنسان المستبدّ في كلّ زمانٍ ومكان.
أمّا على الصعيد التربويّ في المدارس، فإنّ لدى المدرّسين القدرة والقابليّة لإفادة التلاميذ في إيصال الأفكار والإيحاءات إلى عقولهم، وتنمية خيالهم، وتطوير تذوّقهم للفنّ على اختلاف أنواعه ومناحيه، لاسيّما الرسم والنحت، علاوة على ألوان الفنون التشكيليّة الأخرى. فإذا كان الفنّان يواجه مهمّة الإبداع الفنيّ، وهو يدرك أنّ شخوصه وأشكاله في اللوحة الفنّيّة مثلًا، ينبغي أن تمتاز بخصائص إنسانيّة تحقّق واقعيّة السلوك الإنساني وطبيعة التناقضات الجوهريّة في المواقف المختلفة، فإنّ المدرّس يستطيع بثقافته وإحساسه أن ينقل لتلاميذه باللباقة المطلوبة والاستعداد الفطريّ الفنيّ لديه، السمات المميّزة للأشكال الفنّيّة دون أن يفرض رأيًا محدّدًا عليهم، وإنّما تحفيز الذوق الحسيّ والذهنيّ لديهم لفهم العناصر الفنّيّة الخاصّة التي يتضمّنها عمل الفنان المتميّز سواء كان ذلك رسمًا أو نحتًا أو أيّ نوع آخر من الفنون، وبالتالي تتشكّل لدى التلميذ نواة تقدير الفنّ والاستفادة منه واستثماره في الجوانب الحياتيّة المتعلّقة بإنسانيّة البشر والاهتمام بحقوق الإنسان كفرد في المجموعة. فالفنّ عامّة ًوالرسم والنحت خاصّة من أكثر الفنون انفتاحًا على الحياة الاجتماعيّة وتمازجًا معها، فيما يتعلّق بالتداعيات التي تؤثّر في ذهن التلميذ وخياله لإدراك وفهم حقّ الإنسان في التعبير عن ذاته بشتّى الطرق المألوفة من خلال اللوحات مثلًا، التي قد تتناول قضايا حسّاسة في حياة الإنسان كإبراز الألم والمعاناة الإنسانيّة، وتوق الإنسان إلى الحرّيّة والانطلاق والتمرّد على القيود دون الإضرار بالآخر، بالإضافة إلى تصوير مواقف يتعرّض فيها الإنسان إلى ظروف قاهرة بفعل عوامل سياسيّة أو اجتماعيّة ممّا يثير لدى التلميذ المتلقّي تعاطفًا مع حقّ الإنسان في نيل الحرية.كلّ ذلك يكون بتوجيه من المدرّس المرشد الذي يتوجّب عليه أن يتمتّع بالحبّ الإنسانيّ والذوق الفنّيّ ليكون نموذجًا يُحتذى لتلاميذه يشجعّهم على التواصل مع الروح الفنية وتسخيرها للأهداف الخيّرة من خلال الأفكار النّيرة التي تصوّرها وتطرحها الأعمال الفنّيّة المختلفة والمتنوّعة.
على المدرّس أن يتوخّى توجيه وإفهام التلميذ من خلال فكرة أنّ الفنّ مرآة ذات طبيعة إنسانيّة، وهذه الطبيعة الإنسانيّة الاجتماعيّة للفنّ تفرض على الفنّان مسؤوليّة الإلمام بالصراعات الاجتماعيّة الجوهريّة القائمة في الواقع ليتمكّن من إعادة تشكيله فنّيًّا بشكل لا يُنكر ما هو جوهريّ فيه، ولا يضع المشكلات والصراعات العارضة محل ّالهموم والصراعات الأساسيّة، فقدرة العمل الفنّيّ على إثراء الواقع مشروطة بقدرة الفنّان على امتلاك الواقع، وبالتالي تصوير وتجسيد حقّ الإنسان في الحياة والانطلاق وتوفير حرّيّة الإرادة بحيث تُصان حقوقه الإنسانيّة الأساسيّة دون التفاف متعمّد، أو مواربة خادعة.
على الهيئات المسؤولة في أجهزة التربية والتعليم أن تدأب على حثّ التلاميذ وتشجيعهم على عمليّة تذوّق الفنّ الهادف والذي كثيرًا ما يتطرّق إلى قضايا تتعلّق بحقوق الإنسان ورغبته في الحياة الحرة الكريمة دون قهر أو قمع أو إملاءات خارجيّة تحدّ من كرامته وحرّيّتة.
وبالإجمال فإنّه إذا كانت وظيفة النقد الحضاريّ الفنّيّ للمدرّس في توجيه تلاميذه لتحليل اللوحات الفنّيّة فكريًّا وواقعيًّا وإنسانيًّا لا بل وممارسة الفنّ بمفهوم التعاطف الإنسانيّ والتضامن مع حقوق الإنسان، فإنهّا تكون هي التمهيد للتغيير الذي يسبقه الإدراك، ولعلّ مهمّة الفنّ في هذا الاتّجاه هي الأصعب، إذ ينبغي على الفنّان أن يوازن بين الفكرة التي يريد تقديمها، والشكل الفنّيّ المناسب لها، فالشكل الجيد أو القالب الفنّيّ يكتسب أهمّيّته من كونه يجعل العمل الإبداعيّ أكثر تأثيرًا، وأقوى مفعولًا، ويمنحه معانٍ جماليّة من شأنها أن تجذب المتلقّي، لاسيّما إذا كان التوجيه التربويّ للمدرّس يضع أهدافًا مجددة لاستنباط المفاهيم والجوانب الفنّيّة التي تعكس وتؤطّر لاستنباط ما وراء الشكل وإيحاءاته نحو جعل الإنسان متضامنًا مع حقّ أخيه الإنسان في العيش بحرّيّة وكرامة نظريًّا وعمليًّا وتطبيقًا وممارسة أيضًا.