تساؤلات كورونية في الارتدادات الأوَّلية ؟
في ظل العولمة الاقتصادية التي تفوَّقت فيها الهيمنة القائمة على المصالح الضيِّقة وفرضت نموذجا أحادياً على باقي الشعوب وفي ظل ما أثارته من نقاش ،يطل علينا فيروس كورونا المستجد كوجه آخر لها، مع تزايد الإجراءات لمواجهة هذا الفيروس التي تضمنت حظر العديد من دول العالم السفر منها وإليها ، حيث وضعت أزمة كورونا العولمة امام امتحان هام لفلسفتها التي سادت العالم المعاصر منذ الحرب العالمية الثانية.
وقد سلطت الأزمة الضوء على ما اعتبر جوانب سلبية للعولمة والتكامل الدولي واسع النطاق، حيث يبدو كأنها جاءت لتثبت صدق التوجه القومي الاثني والمدني والوطني اكثر في جميع انحاء العالم، إذ أعطت شرعية ومبررا للقيود على التجارة العالمية وحركة الأشخاص والبضائع، وأدركت شركات اقتصادية مختلفة، فجأة، مخاطر الاعتماد فقط على سلاسل التوريد العالمية المعقدة. هذا بالإضافة الى التوقع لانهيار مؤسسات القطاع الثالث، كجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني التي تعتمد بالأساس في تموليها على دعم من صناديق دولية ..!؟
ومع ذلك هناك تصور بديل على خلاف رغبة القوميين ، فأزمة تفشي الفيروس عالميا، إلى جانب كوارث عالمية أخرى مثل تغير المناخ( مشكلة الاحتباس الحراري التي لا تقل خطورة عن أزمة كورنا)، قد تساعد على المدى البعيد في تطوير وعي عالمي مشترك ومختلف، وكلما عانى الناس في جميع أنحاء العالم من الصدمات نفسها، كانوا على اتصال أعمق مع بعضهم بعضا، وأصبحوا ضمن مجتمع عالمي مشترك، بحسب مقال المؤلف الأميركي روبرت كابلان لموقع بلومبيرغ. حيث اوافق بلومبيرغ الرأي بأن ازمة كورونا هي قضية انسانية كونية مشتركة، حيث نرى مفهوم جديد للعولمة دون سابقاته هو عولمة “الحياة والموت”، حيث اتحد العالم في الصراع من اجل الحياة ومواجهة الموت بعد عجز كبير ووقت كثير للعالم بأن يتوحد من اجل خدمة الانسانية وليس البشرية(!؟) ، وهذا ما شاهدناه والذي تمثل من خلال مساعدة الدولة الكوبية، المحاصرة اقتصاديا منذ عشرات السنين ذات الامكانات الاقتصادية المحدودة، لإيطاليا العريقة الدولة العضو في الاتحاد الاوربي التي أدارت شقيقاتها الظهر لها،
ما استذكرني بقول الشاعر ابو فراس الحمداني – وفي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ ، بالإضافة للقرصنة التي مارستها “الدولة العظمى” من خلال الاستيلاء بقوة المال على السفن الصينية المحملة بالكمامات الواقية التي كانت مُتجهه’ لفرنسا …،وقد علا الكثير من التساؤلات للوجودية في هذا السياق وأهمها:
هل ستساهم\ ستعيد أزمة كورونا بإعادة ترتيب العالم ومفاهيمه من جديد؟!
هل سيتحوّل العالم لاعتماد نظام اقتصادي اخلاقي مختلف ما بعد كورونا؟!
هل أزمة كورونا كشفت عمق أزمة الرأسمالية العالمية(التي تتبنى التوجه الاقتصادي الليبرالي\ النيوليبرالي), وبالتالي قد يساهم هذا في استعادة الفكر الاشتراكي (التوجه الديمقراطي الاجتماعي)؟!
العولمة الأولى والثانية
يرى كابلان أن جائحة كورونا ستكون الحدث السياسي والاقتصادي الأهم الذي سيدشِّن معظم الاضطرابات الجيوسياسية المحتملة في العقد المقبل، وسوف يتعمق في أعقابه نموذج جديد للعولمة تدخل إليه البشرية، ولن يكون أيضا نهاية للتاريخ ..!!
في المرحلة الأولى، التي استمرت من نهاية الحرب الباردة حتى وقت قريب جدا، كانت العولمة تدور حول اتفاقيات التجارة الحرة، وبناء سلاسل التوريد العالمية، وخلق وتوسيع الطبقات المتوسطة مع التخفيف من حدة الفقر المدقع، وتوسيع الديمقراطية، وزيادة كبيرة في الاتصالات الرقمية والتنقل العالمي، وعلى الرغم من ذلك كانت ثمة نكسات كبيرة لها مثل الحروب في أفريقيا والبلقان والشرق الأوسط، إضافة الى انتشار واتساع الفقر والمَجاعة حول العالم!؟
لكن المرحلة الثانية من العولمة مختلفة، بحسب كابلان، إذ تتشكل العولمة في مرحلتها الثانية من خلال فصل العالم إلى كتل قوى عظمى مع جيوش قوية وسلاسل توريد منفصلة، وكذلك ستشهد صعود الأنظمة الاستبدادية، وتسود فيها الانقسامات الاجتماعية والطبقية التي ولّدت الشعبوية المعاصرة، إلى جانب انحسار وتململ الطبقة الوسطى في الديمقراطيات الغربية. باختصار ستعبّر العولمة في مرحلتها الثانية عن الانقسامات العالمية الجديدة والمتجِّددة.
ويتفق مع كابلان الكاتب والاقتصادي البريطاني فيليب ليجرين، حيث يرى أن جائحة كورونا سيكون لها تأثير دائم، مرجحا أن تكون بمثابة هدية للقوميين الوطنيين الذين يريدون ضوابط أكبر للهجرة والتنقل، وستعيد كذلك الاعتبار لأزمة المناخ والوعي البيئي والاستدامة.
ويرى ليجرين أن القادة الليبراليين الذين يتحدثون بعبارات لطيفة عن الحاجة إلى التعاون العابر للحدود في مواجهة تهديد مشترك، فرضوا قيودا على السفر والتجارة أكثر قسوة مما تجرأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب على فرضه في ذروة أزمة كورونا .. ويستدرك الكاتبان في مقالهما بصحيفة فورين أفيرز الأميركية قائلين إن العولمة خلقت أيضا نظاما معقدا من الاعتماد المتبادل، إذ احتضنت الشركات سلاسل التوريد والإمداد العالمية، مما أدى إلى ظهور نسيج متشابك من شبكات إنتاج ربطت الاقتصاد العالمي ببعضه البعض، وأصبحت أجزاء منتج واحد تصنع في عشرات البلدان بشكل مشترك.
وأدى هذا التوجه نحو التخصُّص، في بعض الأحيان، إلى صعوبة استبدال المهارات أو المنتجات غير العادية، وبينما أصبح الإنتاج عالميا ومشتركا، أصبحت الدول أيضا أكثر اعتمادا على بعضها بعضا، لأنه لا يمكن لأي دولة أن تنتج كل السلع والمكونات والأجزاء التي يحتاجها اقتصادها، وهكذا تم دمج الاقتصادات الوطنية في شبكة عالمية واسعة من الموردين.
وبهذه الصورة فقد كشفت الأزمة عن مدى هشاشة النظام المعولم اقتصادياً، وقد تكون النتيجة تحولا في السياسة العالمية لمواكبة تحولات ومراجعات فكرية جديدة أو حتى مراعاة لصحة وسلامة المواطنين التي أصبحت على المحك بسبب العولمة.
دون ادنى شك فقد علمتنا أزمة كورونا الكثير من الدروس وأهمها سبر اغوار الذات، حيث أن الانسان لا يمكن أن يحيا لوحده في عالم وُجِدَ للجميع الا بحضرة العدالة الغائبة في كل الميادين كشرط مؤسِّس .
صحيح أن أبناء البشرية ليسوا سواسية، حيث هناك تمايز بينهم الا ان الوباء جاء ليقول لنا بأن مصير الانسانية مشترك ،وقد حان الوقت ان نمد ايدينا معاً للإرتقاء بها كل من مكانه ووفق إمكاناته، فما بعد كورونا ليس كما قبله، وبين هذا وذاك كلي أمل ان نتخطى هذه الأزمة بشجاعة، وان تكون هذه الأزمة بمثابة رسالة للأجيال القادمة ، لأن الحياة هي الأهم وما الانسان سوى تجلٍّ لها..!؟