بقلم د.هديل كيّال
محاضرة في قسم تأهيل المعلّمين جامعة حيفا
شهدنا، وكثيرا ما شهدنا، مستجدّات ومتغيّرات عصفت بمجالات حياتنا المختلفة جرّاء أزمة الكورونا. لم تعدّ حياتنا الاجتماعيّة كما كانت، ولا حياتنا المهنيّة. رافقت هذه المستجدّات أصواتٌ وأصداءٌ لأصواتٍ جعلت قراءتها تختلف من قارئ إلى قارئ.
كعادته، كان المعلّم الأكثر تأثّرا بهذه المستجدّات. كيف لا وهو الطوبة الأساس لبناء أبناء هذه الحياة.لا يخفى على أحد ما لحق بالمعلّم جرّاء هذه الأزمة الكورونيّة، التي أودت بثوابت وأردت بكثير من برامج. المعلّم، الذي نعهده مخطّطا مبرمجا لعامه الدراسيّ ولعمله المدرسيّ، يقع في مرمى سهام الكورونا من كلّ حدب وصوب. فالتخطيط تعطّل، والعمل تكركب ولم يعد القرار قرار معلّم أو مدير أو مفتّش ولا الاختيار كذلك.حالة الفوضى التي عمّت الحياة لحقت بميدان المدرسة صانعة الحياة. فوضى لا تليق بمكان يعلّم النظام ويربي عليه. وأينك يا معلّم؟
لم يقسم المعلّم قسم أبي قراط كطبيب فعل ذلك، لكنّه أقسم أمام ربّه وشعبه أن يقوم بأداء رسالته على أتمّ وجه، وأن يحمي رسالته بكلّ ما أوتي من قوّة.
نعم، أقسمنا. أقسمنا أن نكون أمناء على بناء الأجيال في كلّ وقت وفي كلّ حال. المعلّم هو المعلّم في ظلّ أزمة وبلا أزمة. لم يرفع يديه، ولم يتنازل عن واجبه. تابع مسيرته التربويّة التعليميّة ورافق طلّابه في ساعات لا تشبه ساعات ما قبل الكورونا.. عملَ أكثر وتعبَ أكثر والأهمّ الأهمّ تعلّمَ أكثر.
لا يمكن لك أن تكون معلّما جيّدا إذا لم تكن دائم التعلّم. هكذا تعلّمنا وهكذا نعلّم طلّابنا.لم نصبح معلّمين إلّا من أجلكم؛ ولأجلكم نتعلّم المزيد لنكون معلّمين جيّدين عن بعد كما نحن عن قرب.
غادر المعلّم والطلّاب بيتهم المدرسيّ دون وداع وعلى أمل لعوْد قريب لكنّه بعُدَ وبعُد. أصبح البعد وضعا مستمّرا ووجب التعامل الحكيم مع هذا الوضع. باشر المعلّم دراسة الوضع الجديد فوجده غريبا صعبا، ولا يألف أدواته ولا يودّها. حاول مرارا وتكرارا أن يتعرّف إلى هذا الوضع محافظا على تواصله الدائم مع طلّابه.
وكما لم يكن متوقّعا، نجح المعلّمون خلال فترة وجيزة أن يخطّطوا لطلّابهم برنامجا جديدا للتعلّم عن بعد. رافقت عمليّة التخطيط الكثير من الصعوبات التي ذُلّلت بالتعاون والعمل المشترك بين جميع الشركاء في العمليّة التربويّة التعليميّة.
رافقتُ العديد من المعلّمين في هذه المرحلة المستفزّة للعمل ووجدتهم أهلا للتعلّم وللإبداع وللعطاء. لم يتردّدوا بالسؤال ولم يكتفوا بالقليل. لا أبالغ إذا قلت أنّهم أرادوا أن يتمسّكوا بقوّة بأداء الرسالة عن بعد كما قرب.الكثير من المعلّمين بادر بنفسه إلى تحطيم حاجز الخوف من عالم التكنولوجيا بعد محاولات وتدريبات ذاتيّة أرهقتهم، وما كانوا لها فاعلين قبل الكورونا.
التعلّم الذاتي، الذي نادينا به منذ أعوام، نراه اليوم يتحقّق لدى المعلّم ولدى بعض الطلّاب. وحين ألمس تعلّما ذاتيّا واعيا لدى المعلّم يطمئن قلبي على طلّابه حين يعود إلى مدرسته بعد الكورونا.
لم يعد المعلّم معلّما لموضوعه فقط، أصبح المربّي والمستشار والصديق والوالد أيضا. كيف ننسى أنّ اهتمام المعلّم بمتابعة طلّابه خلال هذه الفترة كان أضعاف ما سبقها. قبل الدرس خلال الدرس وبعده. متابعة يشهد لها الطالب وأهله وكلّ من يعي قيمة التربية والتعليم.
أنْ تُعلّمَ عن بعد يعني أن تكون فنّانا، أن تكون خلّاقا ومبدعا. لا مكان للمعلّم التقليديّ في هذا المضمار.عليك أن تحوّل الدرس “البعيد” إلى درس “قريب” من الطلّاب. أن تصنع درسا فعّالا عن بعد ليس بالأمر اليسير. فمعرفة الأدوات الرقميّة واستخدامها عند الكثير من المعلّمين ما زالت محدودة. والتعامل مع الحاسوب وتداعياته المختلفة لم يكن يوما بالأمر السهل. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الكثير من المعلّمين تعرّف بنفسه إلى هذه الأدوات واستخدمها خيرَ استخدام.. وهذا ليس مفهوما ضمنا.
لا أنكر أن برنامج الحوسبة في المدارس موجود منذ أعوام وأعوام، لكنّه، وباعتراف المعلّمين، بمنعزل عن معلّمي غير الحوسبة. اختار المعلّم أن يبقى بعيدا عن هذا البرنامج “العالم الجديد” واكتفى بالمألوف والمعروف كعادته.
في الملحوظة السابقة دعوة واضحة لكلّ معلّم ألّا يكتفي بالموجود المحدود، إنّما عليه الاستزادة والتعلّم لمواكبة كلّ جديد. الدراسة القبليّة هي دراسة واجبة وهي طوق نجاة في كثير من الأحيان فلا تهملوها!
لا أذكر لقاء “زوم” دعوتُ المعلّمين إليه ولم تكن المشاركة كاملة. هذا دالّ على اهتمام المعلّم ودأبه أن يكتسب المزيد. الاستفسارات الكثيرة خلال اللقاءات تدلّ أيضا على هذه الرغبة.
يهمّني أيضا أن أشيد بالمشاركة الطيّبة والمباركة لأعمال تعليميّة أعدّها المعلّمون. تراهم يرسلون في مجموعات التواصل ما أعدّوه أو ما وجدوه مناسبا في الشبكة ليفيد وليستفيد منه باقي الزملاء.
هذا هو التعلّم الحقيقيّ، التعلّم الذي نشاركه الآخرين. هذا هو الخير.. الخير الموجود في المعلّمين قبل الكورونا وبعد الكورونا.
في ظلّ الهجمة الشرسة التي طالت جمهور المعلّمين من قبَل كلّ من لا يعي قيمة التربية والتعليم، في ظلّ هذا الجو المشحون، أقدّم شكري وخالص امتناني إلى المعلّمين على ما يقدّمون من عمل جبّار يستحقّ كلّ التقدير.ولكلّ أولئك الذين يتطاولون على المعلّمين أقول: كفاك فخرا أن تكون معلّما!