يشكل السكان العرب في إسرائيل مجتمع أقلية قومية وأقلية أصلية تستحق المساواة التامة في الحقوق. لكن الواقع يشير إلى أن إسرائي تميز بشكل منهجي ضد مواطنيها العرب، بما في ذلك مجال المسكن. يتجلى انتهاك حق المسكن للمواطنين العرب في إسرائيل بطرق عديدة: مصادرة الأراضي؛ النقص في الخرائط الهيكلية التي يمكن بموجبها استصدار تصاريح البناء ـ الأمر الذي يُفضي إلى البناء بدون ترخيص وبالتالي هدم المنازل؛ عدم الاعتراف ببلدات يعيش سكانها في ظروف قاسية للغاية وغير إنسانية، بدون كهرباء أو بنى تحتية؛ تمييز في توفير البُنى التحتية والخدمات للبلدات العربية؛ وغياب حلول للضائقة السكنية في البلدات القائمة. القاسم المشترك والمميز لهذه الانتهاكات هو أنها جميعا نابعة من سياسة الأراضي التمييزية التي تنتهجها إسرائيل.
ربطت لجنة أور، التي شكلت لفحص أحداث أكتوبر 2000، بشكل واضح بين سياسة الأراضي التمييزية وبين المس بحقوق المسكن. وقد قررت اللجنة بشكل قاطع أنه في السنوات الأولى لقيامها، وضعت الدولة أياديها على مساحات واسعة من أراضي العرب، وأن عمليات المصادرة كانت “موظفة بوضوح وبصورة علنية لخدمة مصالح الأغلبية اليهودية”، وخدمت أهداف الاستيطان لليهود في هذه المناطق. واعترفت اللجنة بالدور الحاسم الذي لعبته سياسة الأراضي التمييزية في خلق الضائقة السكنية عند السكان العرب.[1]
فعلى سبيل المثال، جاء في تقرير اللجنة أنه نتيجة لسياسة الأراضي هذه طرأ تقليص حاد على مساحة البلدات العربية . وقال التقرير أنه “نتيجة لذلك ازداد الازدحام والكثافة السكانية في البلدات العربية بشكل واضح. أضرت ضائقة المناطق المعدة للسكن بالأزواج الشابة التي بحثت عن مكان للسكن والعيش فيه. لم يساعدها البناء العام المعد للجمهور الواسع بصورة ملموسة. لم تقم بلدات جديدة (باستثناء بلدات بدوية) ولم يتم تحرير أراض من مديرية أراضي إسرائيل لصالح البناء العام في البلدات العربية. كما لم يحظ المواطنون العرب بشروط مساوية في قروض الإسكان ذلك أن غالبيتهم لم يخدموا في الجيش. وقد مُنع المواطنون العرب الذين سعوا للبناء على أراضيهم الخاصة، التي تقع ضمن مناطق نفوذ مجالس إقليمية يهودية بفعل قوانين هذه المجالس”.[2]
خلصت لجنة أور إلى استنتاجات حادة ضد الدولة في مجال التنظيم والبناء للبلدات العربية، أيضا. ومن ضمن ما حدده التقرير، فإن سياسة التنظيم والبناء الإسرائيلية، لم تشرك إطلاقا ممثلين عرب في مؤسسات التنظيم البناء، كما أن الخطط التي وضعت افتقرت لأي حساسية تجاه احتياجات السكان العرب. فنصف البلدات العربية لم تحظ بأي مخططات تنظيم وبناء، ولم تنشر خرائط هيكلية نموذجية أو خرائط لتوسيع هذه البلدات أو خرائط هيكلية من أجل توفير تصاريح البناء. وأشارت اللجنة إلى أن التمييز في مجال التنظيم والبناء، يرتبط ارتباطا مباشرا في المس وانتهاك الحق المسكن. “في أجزاء كبيرة من مناطق النفوذ لم يعط أصحاب الأراضي الخاصة تصريحا ببناء بيوت بصورة قانونية. تطورت ظاهرة منتشرة وواسعة النطاق تتمثل بالبناء بدون ترخيص، يكمن جزء منها في عدم القدرة على استصدار تصريح للبناء[…] استصدرت أوامر هدم بحق بيوت عرب في الجليل والنقب والمثلث والمدن المختلطة. ومع أنه عدم القدرة على استصدار تصريح بالبناء لم يكن دائما لأسباب تتعلق بالبناء غير المرخص، فقد تم الادعاء، أن العوامل التي تقف وراء الوضع القائم تتعلق بدوافع سياسية- أيديولوجية، وأنه نشأ وضع من التمييز ضد المواطنين العرب”.[3]
يتضح إذا أن التمييز المنهجي ضد السكان العرب في الأراضي وفي التخطيط والبناء قد جرّ وراءه سيلا من الانتهاكات الشديدة للحق بالمسكن. لإحقاق العدل وشرح حجم انتهاك الحق بالمسكن عند السكان العرب يجب وضع تقرير شامل بحد ذاته عن هذا الموضوع. في الفصل القادم سنستعرض فقد انتهاكين اثنين من أكثر الانتهاكات خطورة، التي تتعلق بصلب الحق بالمسكن: شروط حياتية غير لائقة، في القرى غير المعترف بها في النقب، وهدم البيوت نتيجة للتمييز في سياسة التخطيط.
من المهم التأكيد على أنه لا يدور الحديث عن مبادرات (بناء وتجارة بالعقارات) أو عن سعي وراء جني الأرباح من قبل السكان أنفسهم. فهؤلاء يناضلون من أجل مجرد وجودهم، وكل همهم هو تأمين سقف متواضع يؤويهم. لا يدور الحديث عن قصور فاخرة تبهر الأبصار. ففي حالات كثيرة نتحدث عن براكيات، جدران أو شقق صغيرة ـ الحد الأدنى الممكن لمبنى يمكن أن يتخيله المرء سعيا للحفاظ على الحياة والأمن الشخصي وسلامة الجسد. لو كان الأمر ممكنا، ولو كان لديهم خيار قانوني، فيمكن التكهن بأنهم ما كانوا ليبنوا بدون ترخيص. ولو كانوا ميسوري الحال فلربما لم يضطروا للسكن في حي سكني كهذا بل لبحثوا عن مسكن في مكان آخر، وفي بيئة ذات مستوى وجودة أعلى وملائمة بدرجة أكبر للسكن في الألفية الثالثة. جاء في نص قرار محكمة الشؤون المحلية في رمات غان:
” نتحدث عن سكان، غالبيتهم ليسوا من أغنياء العالم، يعيشون في المكان منذ عشرات السنين وهذا هو بيتهم ونصيبهم،وهو بحاجة لترميمات كهذه أو أخرى أو لتحسينات بفعل الزمن. يطرح السؤال ما هي مسئولية الدولة تجاههم وما هي مسئولية السلطة المحلية… كيف يمكن القول لمواطن كهذا بأن مصيره أن يتعفن سوية مع سقف بيته، وإذا رفضت ذلك وقمت بالبناء، فسيكون على المحكمة أن تصدر أمر هدم لا يمكن إصلاحه؟ وإذا رفضت تطبيق أمر الهدم تكون مذنبا”؟
شروط المعيشة في القرى غير المعترف بها – مهانة مستمرة طيلة 60 عاما
المواطنون البدو هم أقلية أصلانية، ينتمون للأقلية العربية في إسرائيل. يعيش البدو في قرى زراعية وفي تجمعات سكنية في النقب منذ عشرات السنين، ويعيش غالبيتهم هناك حتى قبل قيام الدولة. أسوة بالمواطنين العرب في إسرائيل فإن البدو هم، أيضا، ضحايا لنظام أراض ولسياسة تنظيم وبناء تمييزية، تمس مسا بالغا بحقوقهم. فقد رفضت الدولة على سبيل المثال الاعتراف بملكية البدو لأراضيهم في النقب. وتجاهلت الدولة أسلوب بيع وشراء الراضي بموجب الأعراق وقوانين العادات المعمول به عند البدو وفرضت على أراضي النقب أنظمة قوانين البيع والشراء الإسرائيلية الأمر الذي أدى إلى تأميم الراضي. وقد حول القانون المواطنين البدو إلى غزاة على أرضهم. رفضت الدولة السماح لهم بالبقاء على أرضهم التاريخية. تم نقل قسم من البدو إلى منطقة خصصتها لهم الدولة، وتم تركيز قسم منهم في عدة بلدات أقامتها الدولة لهم.[4]
على الرغم من الجهود التي بذلتها الدولة من أجل اقتلاع البدو من أراضيهم، لا تزال هناك 39 قرية غير معترف بها في أراضي النقب، يعيش فيها عشرات آلاف الأشخاص. قسم من هذه البلدات تقوم على أراضي أصحابها التاريخية، والقسم الأخر في المناطق التي نقلوا إليها. ترفض الدولة الاعتراف بهذه القرى وتصف هذه القرى وسكانها بأنهم “رحّل”. بالنسبة للدولة فإن الحديث هو عن استيطان غير قانوني يجب إخلاؤه، وتركيز السكان في بلدات قائمة. نتيجة لذلك فإن سكان هذه القرى يعيشون في حالة من عدم اليقين ومن الخوف الدائم من إخلائهم.
وادي النعيم هي إحدى هذه القرى غير المعترف بها. تمتد قصتها على امتداد الاعتراض الذي قدمته باسم السكان جمعية حقوق المواطن وجمعية “بمكوم” ـ مخططون من أجل حقوق تنظيم وبناء للسلطات التنظيم والبناء ضد الخارطة الهيكلية لمتروبولين بئر السبع، وهي خارطة تتجاهل وجود القرية والسكان.[5] ينتمي سكان قرية وادي النعيم لقبيلة العزازمة التي سكنت منطقة جبال النقب في سنوات الثلاثين من القرن التاسع عشر. مع إقامة دولة إسرائيل تم طرد الكثيرين من أبناء القبيلة، وفي سنوات الخمسين تم تركيز من بقي منهم في منطقة بئر السبع. منذ ذلك الوقت يعيش سكان وادي النعيم في هذه المنطقة بصورة “مؤقتة” لأنه لم يتم إيجاد حل دائم لهم. يعيش في القرية نحو 5000 شخص نصفهم تحت سن 18 عاما.
على الرغم من كون بلدة وادي النعيم بلدة غير معترف بها من قبل الدولة فإنه، وبسبب الظروف التي ذكرناها أعلاه، فإنها بلدة قائمة منذ أكثر من 50 عاما. أنشأت خلال سنوات الخمسين مدرسة ابتدائية عند الأطراف الشمالية للقرية. وقد أضيفت على مر السنين للمدرسة صفوف تعليمية وكذلك صفوف للمرحلة الإعدادية. يتعلم في القرية نحو 1،950 طالبا وطالبة. يوجد في القرية 11 صفا لرياض الأطفال (إلزامي وقبل إلزامي)؛ عيادة، تم تأسيسها في كانون ثاني 2006 بعد رفع التماس لمحكمة العدل العليا[6] ، وإلى جانبها يوجد مركز لرعاية الأم والطفولة؛ ثلاثة نوادي نسائية، نادي للأطفال والشبيبة، تمت إقامتها بمبادرة من السكان أنفسهم ؛ تسعة مساجد؛ وحوانيت صغيرة لخدمة العائلات في التجمعات السكنية. وقد أنشأ السكان بمبادرتهم في مركز القرية، مبنى خشبيا معد لرفاهية المجتمع.[7]
تقوم القرية على الأرض لكنها لا تظهر في الخريطة على الإطلاق. بالنسبة لدولة إسرائيل فإن الحديث هو عن أرض صحراوية خالية، ارض دولة؛ فليست القرية وحدها غير موجودة أو قائمة – وغنما أيضا السكان الذين يعيشون هناك غير قائمين. وإلا كيف يمكن أن نفسر وجود قرية في دولة متطورة في العام 2008 غير مرتبطة بشبكات المياه والكهرباء، والمجاري والهواتف أو بشبكة الطرق، كما أن سكان القرية يعانون من النقص الخطير في خدمات التعليم والرفاه الاجتماعي والصحة. كما تتجاهل سلطات التنظيم والبناء وجود القرية. وفي غياب التنظيم والبناء فإن كل بناء في القرية هو بدون ترخيص، يعيش السكان في ظروف فظيعة وتحت تهديد دائم من هدم بيوتهم وفرض عقوبات جنائية إضافية ضدهم.[8]
وإذا كان هذا غير كاف، فقد صادقت سلطات التنظيم والبناء وصدّقت في العقود الثلاثة الأخيرة على إقامة مواقع تلوث البيئة قريبا من المكان، والتي تهدد صحة السكان وحياتهم. ففي سنوات السبعين أقيمت غربي القرية، على مسافة مئات الأمتار فقط، منطقة صناعية هي رمات حوفاف – أحد أكثر المناطق الصناعية تلويثا للبيئة والصحة في إسرائيل. نتيجة لذلك فإن السكان معرضون لمكاره تتمثل بالرائحة الكريهة وتلوث الجو والأرض والماء.[9] وإذا لم يكن ذلك كافيا فقد أقيمت عام 1986 في وسط القرية منشآت لشركة الكهرباء تشمل، أيضا، عشرات خطوط التيار العالي، وكأن أحدا لا يسكن في المكان. كما أن الخطر يهدد سكان قرية بني النعيم من جهة الشرق، في منطقة رمات بيكع المخصصة للصناعات العسكرية، والتي تشكل أيضا موقعا لدفن المواد المتفجرة في إسرائيل. [10]
وادي النعيم هي مثال واحد فقط من أمثلة كثيرة على الانتهاك المنهجي والمتواصل لحق المسكن لسكان القرى غير المعترف بها في النقب. وفي هذه الأيام تعكف لجنة برئاسة القاضي المتقاعد اليعيزر غولدبرغ – على اقتراح سياسات لتنظيم الاستيطان البدوي في النقب، والتي حصلت على تفويض بإيجاد حل لمشكلة الأرض في النقب. توجهت جمعية حقوق المواطن للجنة بطلب أن يضع الحل الذي سيقترح حدا للمس بحق المسكن لسكان القرى غير المعترف بها.[11] نأمل أن تنجح لجنة غولدبرغ، خلافا للجان أخرى سابقة، في إنهاء هذه المهانة المتواصلة.
[1] تقرير لجنة التحقيق الرسمية لفحص المواجهات بين قوات الأمن وبين مواطنين إسرائيليين في أكتوبر 2000، أغسطس 2003، الفصل الأول، الفقرات 33-35. http://elyon1.court.gov.il/heb/veadot/or/inside1.htm.
[2] المصدر السابق الفقرة 36.
[3] نفس المصدر، الفقرة 37.
[4] للتوسع راجعوا : ليسوا على الخريط، Human Rights Watch ، آذار 2008. http://www.acri.org.il/pdf/hitnagduyot.pdf.
[5] الاعتراض موجود على موقع جمعية حقوق المواطن، http://www.acri.org.il/pdf/hitnagduyot.pdf.
[6] م،ع 00/4540، عفاش ضد وزير الصحة ( وقرار حكم بتاريخ 14.5.06.
[7] نفس المصدر.
[8] نفس المصدر.
[9] راجعوا: أورلي ألمي، حياة على الحافة، تقرير من سكان ومنظمات لفحص مدى الحماية لمواطنين في حالات تسرب مواد خطرة يحدث في مصنع مختشيم في موقع رمات حوفاف 13/8/07 ت تقرير مرحلي9 أيلول 2007، تقرير من مواطنات ومواطني وادي النعيم، ولجنة بلدة وادي النعيم، مغماه يروكاه، جمعية حقوق المواطن، جمعية “بمكوم”، أطباء من أجل حقوق الإنسان وشتيل، 2007، الصفحات 39-45. في موقع جمعية حقوق المواطن: http://www.acri.org.il/pdf/ramathovav.pdf.
[10] نفس المصدر.
[11] حقوق السكان العرب في النقب – ورقة عمل قدمت للجنة الحكومية لإيجال حل لمشكلة الاستيطان البدوي في النقب، حزيران 2008، في موقع جمعية حقوق المواطن http://www.acri.org.il/pdf/goldberg.pdf.