يعلم كل متطلع لتحقيق الديمقراطية، أن حرية التعبير هي حق مركزي له أهمية خاصة . ومن منطلق أهمية هذه الحق، حاول المشرعون الديمقراطيون أنيحدوا من هذه الحرية فقط في الحالات المتطرفة من التحريض والتشهير وما شابه. كذلك تحدد هذه الحرية في الحالات التي يتناقض فيها هذا الحق مع حقوق أخرى أكثر أهمية، ومنها: الحق في الحياة، والأمن وما شابه. تفرض التقييدات في إطار قوانين مختلفة، منها: قانون منع التحريض على العنصرية أو العنف (البند 144).
إلى جانب النقاش المفتوح والمعروف حول أهمية حرية التعبير وحول شرعية تقييدها، تتم في الخفاء إجراءات مقصودة وغير مقصودة من أجل سلب حرية التعبير أو الحد منها، وبما أن وعي الجمهور لهذه الخطوات قليل فإنه يمكن استخدامها من قبل معارضي الديمقراطية كأدوات لسلب ومنع امكانية اقامة حوار مجتمعي مفتوح ومثمر وشجاع. نحاول في هذا المنشور القصير أن نشير إلى بعض من هذه الاجراءات، من أجل التعريف بالتعديات المحتملة على الديمقراطية بشكل عام وعلى حرية التعبير بشكل خاص.
المنالية االلغوية – احدى وسائل التعبير الأساسية باتفاق الجميع هي اللغة. كلما كانت المهارة اللغوية للمتحدثين أفضل، كلما أحسنوا التعبير عن افكارهم، وكانوا مفهومين ومتفهمين. لذلك فإن اتقان اللغة التي يتم فيها الحوار المجتمعي هي شرط مهم لمشاركة متساوية وناجعة. في الفضاء متعدد الثقافات ومتعدد اللغات، اعطاء اولوية للتحدث بلغة واحدة على حساب الأخرى، معناه الاعتداء على المساواة في الحق في التعبير. وتجلى هذا الأمر في دولة اسرائيل حتى فترة قريبة حين اعتبرت اللغة العربية لغة ثانية. مكانة اللغة العربية كلغة ثانية في الدولة ، الزم مؤسساتها على ترجمة المستندات الرسمية إلى هذه اللغة، بحيث تصبح مفهومة للأقلية وللأغلبية. عند سن قانون المواطنة (“مقترح قانون أساسي: اسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي”)، ظهر تهديد جديد للمنالية الغوية المتساوية بين اللأغلبية وللأقلية وبناء عليه اعتداء سافر على حرية التعبير المتساوية. (توجيه مرجعي لقانون المواطنة وللقانون الذي سبقه حول اللغة العربية كلغة ثانية). في دول مختلفة تمنح اللغات المختلفة التي يتم التحدث بها في الفضاء العام مكانة اللغة رسمية ويسمح هذا الوضع بمشاركة متساوية في الحوار، وفي فهم المسائل التي تتم مناقشتها وفي الرقابة الجماهيرية. هكذا مثلاً في سويسرا حيث يمكن ايجاد 4 لغات رسمية، وفي بلجيكا 3 لغات رسمية وهكذا.
يظهر تكميم الأفواه في جهاز التعليم في طريقة التعامل مع اللغات التي يتم التحدث بها من قبل الاهل من القادمين الجدد، أو أهل الأطفال اللاجئين والمهاجرين من دول أخرى وغيرها. الدعوات للنقاشات العامة في المدرسة، وكذلك الحوار نفسه يتم في أغلب الحالات بالعبرية فقط، ومن لم تكن العبرية لغته، يستصعب كثيراً في المشاركة.
جداول المواعيد كأسلوب لسلب الحق في التعبير – وجود نقاش عام يلزم في حالات عديدة حضوراً فعليًا لجميع المتناقشين. احدى الطرق الشائعة لإقصاء وتكميم أفواه المعارضين للمقترحات التي سيتم طرحها على جدول الأعمال هي بتحديد موعد لقاء غير مناسب بالنسبة لهم. في هذه الحالة يتغيب المعارضون عن اللقاء فلا يتم إسماع أصواتهم. في قسم من الحالات يتم “الإقصاء الوقتي” بشكل مقصود، ولكن في حالات عديدة يحدث نتيجة عدم الوعي لحقيقة أن جدول المواعيد الذي تم تحديده للنقاش هو أمر ذي أهمية. فعلى سبيل المثال، تقام اجتماعات الأهل في المدارس احياناً كثيرة في ساعات الصباح من أيام الجمعة. هذه الحقيقة تمنع مشاركة الأهل الذين يعملون في هذا اليوم بينما تسمح للأهل الذين يعملون خمسة أيام في الأسبوع من الحضور. في معظم الحالات هناك علاقة بين انتماء الاهل لمجموعة العاملين خمسة أيام في الأسبوع ووضعهم الاجتماعي الاقتصادي. بهذا الشكل يتم اسكات اصوات المجموعات المهمشة في المدرسة. وبنفس الطريقة نجد ان جلسات العمل في الحيز التجاري تتم في ساعات المساء، مما يمنع المشاركة فيها على الأهل ممن لديهم أطفال صغار وخصيصاً الاهل الذين يرعون الأطفال وهم في العادة النساء. بهذا الشكل يتم اسكات اصواتهن في نطاق عملية اتخاذ القرارات.
مكان النقاشات كوسيلة لتقليص او سلب حرية التعبير – يوثر مكان عقد النقاشات على الفترة الزمنية التي يحتاج المشاركون لتخصيصها من اجل المشاركة. فعلى سبيل المثال تحديد مكان في منطقة الشمال للقاء من المفترض أن يشارك فيه اشخاص من الشمال والجنوب والمركز. اللقاء في الشمال يلزم الجنوبيين ان يخصصوا ساعات أطول من أجل المشاركة، وفترة زمنية اقل للاشخاص من المركز وفترة زمنية قليلة جداً للأشخاص من الشمال. تنعكس الفروق هذه سواء من ناحية النفقات أو من ناحية التفرغ للوصول إلى الحوار المشترك. احياناً يمنع الوقت المطلوب تخصيصه للوصول قسماً من الناس من المشاركة في الحوار، ويحرمهم من فرصة المشاركة، كذلك مسألة تكلفة الوقود والقدرة على مغادرة مكان العمل في الساعات التي تم فيها تحديد النقاش.
خصخصة الحوار – المنتمون لمجموعات الأقلية، ومن يتبنون مواقف مثيرة للجدل، أو مبتكرة و/أو ناقدة، يواجهون في العادة صعوبة اكبر للتعبير عن مواقفهم مقارنة بالأغلبية التي تحصل على وقت أطول للحديث وتواجه معارضة أقل عند التعبير عن موقفها. يحتاج أفراد الأقلية لدعم من المشاركين لمواقفهم من أجل طرحها أمام مجموعة الحوار. ولكنهم عندما يحاولون توحيد صفوفهم من أجل زيادة قوتهم يواجهون في احيان كثيرة سطحية في التعاطي تطالبهم بالامتناع عن استعمال مصطلح “نحن” والاكتفاء بعرض مواقفهم على نطاق شخصي فقط. يزيد هذا الشرط من ضعفهم ويجعل التعامل مع القضية التي يطرحونها أمام شركاء الحوار وكانها مسألة شخصية فقط. على سبيل المثال، طرحت النساء على العامة ولسنوات كثيرة رفضهن للتحرش الجنسي فطلب منهن التعامل مع الأمر وكأنه مسألة شخصية. هذا الطلب منعهن ومنع الجمهور من ادراك ان المسألة هي مشكلة اجتماعية مما سلب النساء قوة الجماعة التي ينتمون اليها فيما كان دعم المجموعة بالنسبة إليهن حينها أمراً شديد الأهمية.
إنشاء رواية سائدة (مسيطرة) “القصة او الرواية السائدة هو توضيح لمسألة معينة في العالم، يتم وضعه وفق وجهة نظر ثقافية أو شخصية” . طرح رواية مشتركة للمجتمع المنقسم (ليس متنازعًا بالضرورة) يقصي مجموعات كثيرة ويمنعها من اسماع صوتها في الفضاء العام. هكذا مثلاً الرواية التاريخي المعترف به في دولة اسرائيل، والذي يكتم اصوات مواطنيها الفلسطينيين ومواطنيها الآخرين غير اليهود. الدعوة المتكررة والمستمرة للوحدة الاجتماعية، تسكت بحسب الاغلبية الأصوات التي لا تعتبر الوحدة جزءاً من هويتها. انشاء مؤسساتي لرواية مهيمنة يمنع بهذه الطريقة ومنذ سنوات طويلة حرية التعبير لدى النساء، والشرقيين، والمتدينين وغيرهم.
“التأثير الرادع “ – الأثر الرادع هو اسم الظاهرة التي يخشى فيها الناس من دفع ثمن اجتماعي وحتى قانوني على تلفظات معينة حتى لو كانت تفوهات شرعية. هذه الخشية يمكن ان تسبب لديهم تنشيط نوع من الرقابة الذاتية – الصمت او تخفيف الانتقاد الذي ارادوا التفوه به او الفكرة التي ارادوا التعبير عنها. يمكننا في هذا السياق ان نقدم عدة أمثلة على تكميم الأفواه بسبب التأثيرالرادع:
المثال الاول لتجسيد هذا التأثير هي استخدام الدعاوى القضائية ضد التشهير، من أجل التسبب للناس بتفعيل رقابة على انفسهم بشكل “طوعي”. المحامي فينتسوك يعرف هذه الحالات كـ”دعاوى الإخراس/ الإسكات”:
” تتزايد في السنوات الاخيرة في اسرائيل ظاهرة معروفة في دول أخرى: دعوى او تهديد بدعوى السب والقذف نتيجة لتفوه او لتحرك في موضوع عام. ترفع هذه الدعاوى في العادة من قبل اشخاص أو مؤسسات اصحاب سلطة وقدرة اقتصادية. وهي تقوم على ادعاءات ضعيفة او مبهمة، وفي قسم من الحالات يتم تضخيمها. التأثير الأساسي لها ليس قانونياً بل مجتمعياً: وهو اسكات النقد المستمر ضد المدعي والحاق الضرر بمن يعيقه عن التقدم في مصالحه. واضافة الى الحاق الضرر بالمدعي الأصلي ينطوي تأثيرها على تخويف للآخرين أيضاً (“تأثير الردع”) من المشاركة في مناقشة علنية وحرة في مسائل ذات أهمية عامة، وخصوصاً من توجيه النقد لجهات ذات قوة. هذا هو مصدر الاسم “دعاوى الإخراس/ الإسكات” والذي اخترناه من أجل الاشارة إلى هذه الظاهرة. مع التركيز على أن تعريف الدعوى كدعوى إخراس/إسكات لا يأتي من اجراءات مزاجية من المدعي ولا تنجم عنها. المهم في موضوعنا هو النتيجة التي تسببها الدعوى – وهي التأثير على حرية التعبير وعلى الحوار الديمقراطي” .
الأمثلة التالية في موضوعنا هي وسائل تبريد / اخماد حرية التعبير لدى أفراد الطاقم التعليمي:
تخيلوا الحالة الافتراضية التالية: قبل جلسة تحضير المعلمين للسنة الدراسية الجديدة، تناقشت معلمتان فيما بينهما – مركزة التربية الاجتماعية في المدرسة، وهي معلمة قديرة والمعلم الجديد للتربية البدنية، وهي السنة الاولى له في التعليم. دار الحديث بينهما حول التوزيع غير العادل لميزانيات المدرسة على النشاطات المختلفة. خلال الجلسة نفسها، قررت مركزة التربية الاجتماعية طرح ادعائها أمام المديرة والطاقم حول عدم تخصيص ميزانيات لصالح النشاطات الاجتماعية اللامنهجية. عندما أنهت حديثها، وبشكل مفاجئ، هاجمتها المديرة: “اذا لم يعجبك توزيع المال بهذا الشكل، اذهبي وابحثي عن مدرسة أخرى تعملين فيها!” وفوراً توجهت لبقية المعلمين بالسؤال: هل هناك أحد آخر لديه اعتراض على الطريقة التي أدير فيها المدرسة؟”
لا ندعي في هذا السياق ان هذه الظاهرة منتشرة ونحن نطرحها فقط من أجل تجسيد الفكرة.
في هذا السياق، تكون الحالات التي يتفوه فيها أصحاب مناصب كبيرة في وزارة التعليم بشكل فاضح ضد اصحاب المواقف التي لا تتوافق مع افكارهم أمراً أكثر خطورة. فهم يرسمون بهذه الطريقة حدود النقاش المشروع، حتى لو لم يتم وضعها بشكل صريح. عندما يكتب وزير التعليم على سبيل المثال منشوراً يقول فيه: “اذا كان الادعاء صحيحاً، اتوقع من الاشخاص الذين يحزنون على قاتلي الأطفال ومفجري الحافلات ان يكونوا أقل حساسية للبصق والدفع وخراطيم المياه “، وهو يشير إلى الأهل الثكالى كمؤيدين للقتل وبهذا يخلق عدم شرعية لتعبيرهم عن أسفهم ويمنع النقاش العقلاني حول المسألة في نظام التعليم وفي الفضاء السياسي العام. يمكننا توقع أن اشارات كهذه ستمنع الكثير من المعلمين ومن المدرسين من التحاور مع طلابهم حول الطريقة الملائمة للتعامل مع الفقدان، حتى لو لم يمنع هذا الأمر بشكل صريح.
طريقة أخرى “لإخماد” رغبة المعلمين في التعبير، هي دعوة المعلم للاستجواب اذا تفوه بأفكار معارضة للحكم، حتى لو لم ينته الاستجواب بفرض عقوبات او بمنع صريح لقول مثل تلك التفوهات. (طلبت وزارة التعليم لاستجوابات من هذا النوع زئيف دغاني مدير المدرسة الثانوية في هرتسليا، وران كوهين مدير تيخونت تل أبيب، والمعلم فارتا وآخرين). من المهم في هذا السياق الاشارة إلى انه لم يطلب من جميع المستجوبين أن يغيروا من سلوكهم ولهذا السبب بالذات، ينبغي النظر الى هذا الاسلوب من الاستجواب للتحقيق كـ”تأثير رادع”.
هذه الوسائل التي عرضناها وغيرها تعتبر وسائل خفية للالحاق الضرر بحرية التعبير. نشر الوعي بوجودها واستعماله لتغيير الواقع وخلق حالة تسمح لمعظم المجموعات والأفراد باسماع أصواتهم في النقاش العام لا يقل أهمية، بل احياناً هو اكثر أهمية، من اي تشريع يأتي ليحمي حرية التعبير.
مقترح للنقاش في الصف:
طرق خفية لتقييد حرية التعبير
أهداف النقاش:
1. التعلم عن الطرق الخفية لتقييد حرية التعبير.
2. التعلم حول الطرق الممكنة للتعامل مع هذه التقييدات.
سيرورة الفعالية:
1. يطلب من الطلاب ان يقرأوا المنشور أعلاه بتمعن وأن يسجلوا لأنفسهم أي من أنواع التقييد مروا بها ومتى.
2. النقاش في مجموعات صغيرة (3-4 مشاركين في كل مجموعة):
• يشاركون رفقائهم في انواعا خراسالأفواه التي مروا بها بشكل شخصي
• سيطلب من المجموعات الاشارة اذا ما كانت الاحداث التي وصفت من قبل رفقائهم ملائمة للوصف الوارد في المنشور حول التقييد الخفي لحرية التعبير.
• سيطلب من المجموعة ان تقترح لكل واحدة من الحالات رداً ديمقراطيًا، يعمل على ازالة الحاجز الذي فرضه إسكات الأفواه الخفي.
3. نقاش تلخيصي لجميع المشاركين:
• تعرض كل مجموعة النقاط الأساسية للنقاش الذي دار في المجموعة والحلول المقترحة للتغلب على معيقات إسكاتالأفواه الخفي.
• سيتطرق الطلاب للأمور التي تم عرضها من قبل المجموعات وسيحاولون فحص ان امكن تطبيقها في اطار المدرسة او في اطر أخرى يعرفونها.