المحامي عوني بنا
نسخة للطباعة (PDF)
منزل عائلة أبو عيد في اللد. كانون أول 2010، تصوير طال نيتسان
يعاني الجمهور العربيّ في إسرائيل من ضائقة خانقة وقاسية في مجال السكن. هذه الضائقة تحمل مميّزات وخصائص متفرّدة. بالإضافة إلى ارتفاع أسعار السكن الذي يطال عموم الجمهور في إسرائيل، تشكّل الضائقة في صفوف الجمهور العربيّ محصّلة مباشرة للتمييز على امتداد سنين طويلة في مجالات الأرض والتّخطيط وتخصيص موارد السكن. وضَعَ هذا التمييزُ المتواصل المواطنين العربَ أمام بدائل إسكان محدودة للغاية (بل غائبة -في بعض الأحيان)، داخل المدن والقرى العربيّة والأحياء العربيّة في المدن المختلطة، وكذلك خارجها.
التمييز والضائقة هما من الحقائق الراسخة التي اعترفت بوجودها – في ما اعترفت- هيئات رسميّة. من تلك الهيئات لجنة أور التي أوصت بأن تخصَّص للجمهور العربيّ “أراضٍ بحسب مبادئ وسياسات متساوية، كما للقطاعات الأخرى”. وقد تناولت المحكمة العليا هذه المسألةَ في العديد من القضايا (كقضيّة عائلة قعدان)، وحدّدت واجبَ تبنّي مبدأ المساواة بين اليهود والعرب في مسألة تخصيص الأراضي المُعَدّة للسكن.
في هذا التقرير المقتضب، سنستعرض مميّزات وبيانات ضائقة السكن في المجتمع العربيّ، وسنتطرق في عجالة إلى لخطوات المطلوبة لحلّها.
مميّزات الضائقة
شُحٌّ في الأراضي، ومناطق نفوذ مقلّصة:
بدأت المصادرة المكثّفة والمتواترة للأراضي التي يمتلكها العرب مع إقامة دولة إسرائيل، لكنّها شهدت تصعيدًا في خمسينيّات القرن الماضي وستّينيّاته، وكانت النتيجة النقص الخطير في الأراضي المُعَدّة لبناء المساكن في المدن والقرى العربيّة، وأفْضت إلى تقليص حادّ في مناطق نفوذ البلدات العربيّة. وهكذا- على سبيل المثال:
على الرغم من وتيرة النموّ السريعة للجمهور العربيّ (الذي تضاعف بسبع مرّات منذ العام 1948) فقد تقلّص احتياطيّ أراضي هذه الشريحة السكّانيّة بنحو النصف؛
منذ قيام دولة إسرائيل، لم تُنشأ حتّى مدينة أو قرية عربيّة واحدة (باستثناء البلدات التي أقيمت في النقب لغرض تجميع البدو فيها، والاستيلاء على أراضيهم)، وذلك مقابل نحو ألف مدينة وقرية يهوديّة أقيمت منذ ذلك الحين؛
نسبة المواطنين العرب تبلغ 20% من مجموع السكّان في إسرائيل ، لكنّ مساحة مناطق نفوذ السلطات المحلّـيّة العربيّة مجتمِعة (التي تسكن غالبيّة المواطنين العرب فيها) لا تصل اليوم إلى 3% من مساحة دولة إسرائيل؛
تصل مساحة منطقة نفوذ مدينة الناصرة بسكّانها الـ 75,000 إلى نحو14,000 دونم. في المقابل، أقيمت مدينة نتسرات عيليت المتاخمة على أراضي الناصرة والقرى المجاورة، ويبلغ تعداد سكّانها 52,000 نسمة، وتمتدّ مساحة منطقة نفوذها إلى 35,000 دونم؛
منذ العام 1948، صودر 70% من أراضي قرية عين ماهل لصالح تطوير نتسرات عيليت وإقامة أحياء جديدة فيها (تقلّصت مساحة القرية من16,000 دونمفي العام 1948 إلى4,000 دونمفي هذه الأيّام)؛
تقلّصت مساحة مدينة سخنين منذ إقامة دولة إسرائيل، لتصل إلى ما لا يزيد عن 15% من مساحتها إبّان حقبة الانتداب البريطانيّ (من70,000 دونمفي تلك الفترة إلى أقلّ من10,000 دونمفي أيّامنا هذه).
بينما تتقلّص مجالات ومساحات مناطق النفوذ، تشهد المدن والقرى العربيّة مزيدًا من الاكتظاظ: منذ إقامة الدولة ارتفعت نسبة الاكتظاظ السكّانيّ في هذه البلدات 11 مرّة. على سبيل المثال، يبلغ الاكتظاظ السكّانيّ في سخنين 191 مترًا مربّعًا للنسمة، بينما يبلغ في كرميئيل 524 مترًا مربّعًا للنسمة الواحدة.
غياب الخرائط الهيكليّة المحدَّثة
تفتقد غالبيّة المدن والقرى العربيّة إلى خرائط هيكليّة محدَّثة، تلك التي تنظّم البناء القانونيّ، وتمكّن من إنشاء مبانٍ سكنيّة بحسب الاحتياجات المتزايدة. المساحات المُعَدّة للسكن في الخرائط الهيكليّة الأصليّة لجميع المدن والقرى العربيّة لم تتغيّر منذ المصادقة على الخرائط قبل عشرات السنين. واستنادًا إلى بحث أجْرته جمعيّة الجليل، صودق على 42% من الخرائط الهيكليّة للبلدات العربيّة في الفترة الواقعة بين بداية الستينيّات ونهاية الثمانينيّات، ولم يصادَق إلاّ على 18% منها في الفترة الواقعة بين العامين 2000 وَ 2006. لم يجْرِ تحديث غالبيّة الخرائط منذ المصادقة عليها على الرغم من التزايد المتواتر في احتياجات السكن داخل البلدات العربيّة. إجراءات تحديث وتغيير الخارطة الهيكليّة لبلدة عربيّة تستغرق سنين عديدة، ممّا يعني أنّ التغييرات والتحديثات في الخرائط لا تغلق أبدًا فجوة تنامي الاحتياجات. ينسحب هذا الأمر على الأحياء العربيّة في المدن المختلطة كذلك، إذ يغيب التخطيط تمامًا عن أحياء كاملة في اللدّ والرملة. على سبيل المثال، نذكر حيّ كرم التفّاح في اللدّ الذي يسكن فيه نحو ألف نسمة في ظروف سكنيّة واكتظاظ شديدين، ويعاني تجاهل البلديّة له تجاهلاً تامًّا. تُعِدّ الخارطة التوجيهيّة للمدينة مساحات الحيّ – في ما تُعِدّ- للسكن، وتشترط البناء والتطوير بإعداد خارطة مفصّلة للحيّ. وعلى العكس من الأحياء اليهوديّة في المدينة، لم تُعَدّ خارطة كهذه خلال عشرين عامًا خلت.
وبسبب غياب الخرائط الهيكليّة، أو وجود خرائط غير محدَّثة لا تلبّي الاحتياجات، لا يتمكّن سكّان المدن والقرى العربيّة والأحياء العربيّة في المدن المختلطة من الحصول على تراخيص للبناء القانونيّ. في غياب الخيارات الأخرى، يرغَم الكثير من المواطنين العرب على بناء بيوتهم دون ترخيص، والعيش في تخوّف دائم ممّا قد يترتّب عن ذلك (راجعوا -لاحقًا- هدم البيوت).
غياب التمثيل في مؤسّسات التخطيط ومَحاور صنع القرار:
يغيب التمثيل اللائق للجمهور العربيّ والسلطات المحلّـيّة العربيّة عن مؤسّسات التخطيط المختلفة وعن الأجسام المسؤولة قانونيًّا عن إدارة الأراضي في دولة إسرائيل. على سبيل المثال، لا تضمّ التركيبة الحاليّة لمجلس إدارة دائرة أراضي إسرائيل (وهي الدائرة المسؤولة عن تحديد سياسة الأراضي في دولة إسرائيل) أيّ مندوب عربيّ على الإطلاق، على الرغم من تمثيل الكثير من المنظّمات الصهيونيّة في هذه الأجسام، كالكيرن كييمت التي تمارس سياسة معلنة تستخدم بموجبها الأراضي التي بحوزتها (نحو 13% من الأراضي في إسرائيل والتي تديرها الدولة) لصالح اليهود دون سواهم.
جرى إقصاء المواطنين العرب، على نحوٍ منهجيّ، عن مَحاور صنع القرارات المتعلّقة بحجم الأراضي التي تقع تحت سيطرتهم وتخضع لاستخداماتهم. على هذا النحو يُحرَم العرب من حقّ المشارَكة في عمليّة صنع القرار حول حجم المدن والقرى العربيّة وموقعها وتطويرها، وحول المساحات المُعَدّة للسكن وحدودها، وحول التطوير المدينيّ، وهي أمور تؤثّر تأثيرًا مباشرًا على ظروف معيشتهم.
غياب الاعتراف بعشرات القرى البدويّة في مسائل الحكم المحلّـيّ والتخطيط:
تواصل دولة إسرائيل رفضها الاعتراف بعشرات القرى البدويّة في النقب، وغالبيّتها كانت قائمة قبل إقامة هذه الدولة، ويعيش فيها اليوم ما يربو على 80,000 مواطن عربيّ. الخرائط الهيكليّة لمنطقة الجنوب تجاهلت تجاهلاً تامًّا وجود هذه القرى والاحتياجات السكنيّة لسكّانها الذين يرزحون على نحو دائم تحت طائلة خطر التهجير وهدم البيوت. بعض هذه البلدات التي تمكّنت في السنوات الأخيرة من نيل الاعتراف تفتقر إلى الخدمات الأساسيّة والخرائط الهيكليّة للبناء المُعَدّ لأغراض السكن.
بالإضافة إلى ذلك، لا تعترف دولة إسرائيل بحقوق ملْكيّة السكّان البدو على أراضٍ كانت بملْكيّتهم قبل العام 1948 بعشرات ومئات السنين.
غياب برامج اسكان حكوميّة وغياب الاستثمار في البنى التحتيّة والخدمات:
تجاهلت برامج الإسكان الحكوميّة – بما في ذلك البناء الشعبيّ والمكافآت الاقتصاديّة (مِنَح الإسكان، وقروض الإسكان، والمكافآت الممنوحة للأزواج الشابّة، وما شابه)- تجاهلت لسنين طويلة المدنَ والقرى العربيّة والمواطنين العرب. الكثير من مناقصات توزيع الأراضي المُعَدّة للسكن أُخضعت لاشتراطات عديدة أَقصت البلدات العربيّة والمواطنين العرب (نحو شرط الخدمة العسكريّة). مناقصات الأراضي التي تقع ضمن ملْكيّة الكيرن كييمت (والتي -كما ذكر آنفًا- تديرها الدولة) أُعِدّت طَوال سنين للمواطنين اليهود دون سواهم.
ومن دراسة أعدّها المركز العربيّ للتخطيط البديل، يُستشَفّ أنّ دائرة أراضي إسرائيل لم ترصد في العام 2008 للجمهور العربيّ سوى 9% من القسائم، وهي نسبة ضئيلة لا تتلاءم مع احتياجات هذه الشريحة السكّانيّة من المسكن.
هذه السياسة التمييزيّة (إلى جوار الإهمال المُمنهَج في الاستثمار في الهياكل التحتيّة والخدمات العامّة في المدن والقرى العربيّة) أدّت إلى تفاقم الوضع، وحوّلت غالبيّة البلدات العربيّ إلى بؤر فقر وضائقة. تشير بيانات دائرة الإحصاء المركزيّة على نحو متواصل وقاطع أنّ المدن والقرى العربيّة هي الأكثر فقرًا وضعفًا في إسرائيل في المَنْحَيَيْن الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وما من شكّ في وجود علاقة وثيقة بين النقصِ في الأراضي المُعَدّة للبناء في هذه البلدات وحالتِها الاقتصاديّة المتردّية.
العنصريّة والتشريعات التمييزيّة
العنصريّة والتمييز يطاردان المواطن العربيّ عندما يشرع في البحث عن حلول سكنيّة خارج المدن والقرى العربيّة:
مشاريع إسكانيّة (لا سيّما في المدينتين المختلطتين الرملة واللدّ) مُعَدّة لخرّيجي الجيش والعساكر المسرَّحين؛
في الآونة الأخيرة، نشهد محاولات إبعاد المواطنين العرب عن البلدات الجماهيريّة من خلال شروط إقصائيّة (كاشتراط السكن فيها بتبنّي قيم صهيونيّة أو منح الأفضليّة لخرّيجي الجيش)؛
قانون لجان القبول الذي صودق عليه قبل بضعة شهور يمسّ بخيارات السكن لدى المواطنين العرب ويُقَوْنِن سياسةَ إقصائهم عن بلدات معيّنة في النقب والجليل بسبب ما عرّف كـَ “غياب الملاءَمة الاجتماعيّة”.
العنصريّة المتفاقمة في المجتمع الإسرائيليّ تصبّ الزيت على نار ضائقة السكن في صفوف المواطنين العرب، وتُقلِّص أكثر فأكثر من خيارات السكن المتوافرة لصالحهم. في هذا السياق، نشير إلى العنف والتهديدات التي يواجهها العرب في المدن اليهوديّة والدعوات المتكرّرة التي يطلقها عدد من الحاخامات (وجهات أخرى) للامتناع عن تأجير الشقق للعرب وعن بيعها لهم.
هدم المنازل:
التمييز وانعدام التخطيط وعدم الاعتراف بالبلدات أرغم الكثير من المواطنين العرب على التوجّه نحو بناء بيوت غير مرخَّصة بغية ممارسة حقّهم الأساسيّ في توفير سقف يؤويهم. لا تنبع هذه الخطوة من استهتار بالقانون، أو من رغبة في انتهاك قوانين دولة إسرائيل، بل من ضائقة حقيقيّة وغياب بدائل سكنيّة أخرى. المسؤوليّة عن جزء كبير من هذا النوع من البناء تقع على كاهل دولة إسرائيل التي لم توفّر طَوال سنين عديدة قاعدة تخطيطيّة للبناء المرخّص كما تقتضي الاحتياجات، وتجاهلت وجود بلدات كاملة، وأهملت الجمهور العربيّ في كلّ ما يتعلّق بتخصيص موارد الأرض والسكن المختلفة.
وبدل التركيز على معالجة مسبِّبات وعوامل البناء غير المرخّص، توسّع الدولة في السنوات الأخيرة تطبيقَ سياسة هدم البيوت في المدن والقرى العربيّة، وفي الأحياء العربيّة في المدن المختلطة وفي القرى العربيّة البدويّة، بما في ذلك القرى التي انتزَعت الاعتراف لكنّها لم تحْظَ بعد بخرائط هيكليّة. هذه السياسة تضفي مزيدًا من التعقيد، وتزيد من الضائقة.
مَطالب وحلول
- طبيعة ومسبّبات ضائقة السكن في صفوف الجمهور العربيّ تستوجب طرح حلول خاصّة، وتستلزم تجنّدًا من قبل الحكومة وأذرعها ووزاراتها المختلفة:
- الحكومة مطالَبة – بادئ ذي بدء- بالتوقّف عن سياسة هدم المنازل في المدن والقرى العربيّة، والأحياء العربيّة في المدن المختلطة، وفي القرى العربيّة البدويّة في النقب.
- يجب على دولة إسرائيل الاعتراف بعمق الضائقة واتّساعها وبمسؤوليّتها عن تولّدها، والعمل عن كثب على ممارسة واجباتها القانونيّة في توفير إطار تخطيطيّ وذاك المتعلّق بالأراضي لصالح الجمهور العربيّ، والذي يوفّر إمكانيّة البناء المنظّم والقانونيّ أسوة بسائر الفئات السكّانيّة.
ثمّة ضرورة لانتهاج سياسة العدل التوزيعيّ الذي سيدفع نحو تدعيم مساواة المواطنين العرب في تخصيص الموارد في مجالات البناء والأراضي والتخطيط. بغية إغلاق الفجوات الشاسعة بين اليهود والعرب في هذه المجالات (والتي تولّدت عبر سنين طويلة من التمييز والغبن والظلم)، ثمّة حاجة إلى تطبيق سياسة عدل توزيعيّ مصحِّحة.
- توسيع حيّز الأرض وحيّز التخطيط الواقع تحت تصرّف واستخدام المدن والقرى العربيّة لا يشكّل خطوة تستجيب على نحو فوريّ لاحتياجات السكّان العرب والبلدات العربيّة فحسب ، بل تساعد كذلك على الدفع قُدُمًا بمساواة الجمهور العربيّ.
- تحديث وَ/أو إعداد خرائط هيكليّة تلبّي الاحتياجات السكنيّة للبلدات العربيّة والأحياء العربيّة في المدن المختلطة، وذلك خلال فترات زمنيّة وجيزة ومحدَّدة ومعقولة، وفي إطار إجراء تخطيطيّ عاجل، والعثور كذلك على حلول إسكانيّة في المرحلة البينيّة إلى حين استكمال الإجراء التخطيطيّ؛
- الاعتراف بجميع القرى العربيّة البدويّة غير المعترف بها وتسوية أمورها من ناحيتي الحكم المحلّيّ والتخطيط وإعداد الخرائط الهيكليّة التي تراعي – في ما تراعي- البناءَ القائم في القرى منذ عشرات السنين؛ والاعتراف بحقوق الملْكيّة التاريخيّة للبدو على أراضيهم في النقب؛
- ضمان التمثيل اللائق للسكّان العرب في مؤسّسات التخطيط، وفي مجلس إدارة دائرة أراضي إسرائيل، وفي الأجسام العامّة المسؤولة عن تحديد سياسات الأرض والتخطيط لدولة إسرائيل.
- دمج المواطنين العرب في برامج المساعدة الحكوميّة في مجال السكن، بما في ذلك برامج ومشاريع للبناء الشعبيّ في البلدات العربيّة؛ والاستثمار في الهياكل التحتيّة والخدمات داخل هذه البلدات؛ ورصد متساوٍ للموارد بحسب الاحتياجات ومدى الحاجة لتسهيلات حكوميّة ومنحٍ ومكافآت اقتصاديّة في مجال الإسكان.